تقدما نحو الباب الضخم، الموارب.. دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة..
دفعه (جمال) بحذر.. فأنطلق صوت حادّ خرق سكينة المكان !..
ثم ارتفع حاجبا (جمال) في حين شهق (هشام) لما رأيا ما بالغرفة !..
لقد كان بها أثاث !..
سرير ضخم، عالي.. و مقاعد قديمة متآكلة و ستائر بيضاء مهترئة و صور كبيرة بالحائط، يغطّي الغُبار ملامح أصحابها !.. ثم بسـاط غريب الألوان و ثريّا ذات طراز عتيق معلّقة
على مسافة قريبة !..
و هناك إناءٌ معدني قديم ملقى بالركن..
وقفا مشدوهان لبضع ثواني و هما يرمقان هذه القطع الأثرية العجيبة.. على ضوء خجول للقمر المطل من وراء ستائر النافذة !..
تكلم أحدهما أخيرا بصوت متحشرج.. لقد كان (جمال)..
- أنظر إلى هذا السرير.. إنه يتسع لأربعة أشخاص !..
- جمال !..
- هيا بنا.. ماذا تنتظر ؟.. أنسيت أنك منهك، سكران... هيا..
- جمال !..
أزاح (جمال) الابتسامة العريضة من على ثغره و زال الحماس من كلماته و هو يقول..
- ماذا هناك ؟!..
- ألم تلاحظ شيئا غريبا هنا ؟..
- مثل ماذا ؟..
تمتم (هشام) بصوت خافت و عيناه شاردتان:
- كيف يكون هذا البيت الوحيد الذي به أثاث في حين أن المنزل يبدو كمزبلة المدينة ؟!..
- ما الغريب في...
- ثم كيف لم تُسرق هذه القطع من الأثاث الثمين، أو ينتفع بها صاحبها ؟؟..
- نحن لا..
- ثم لماذا هذه الغرفة بالذات مفتوحة في حين أن عشرات الغرف مقفلة بإحكـام ؟!..
- هييه !.. من تحسب نفسك ؟.. كونان ؟؟... أنا لا يهمني ما تفكر فيه و لا ما تحاول اكتشافه !..
ثم نَظَرَ إلى السرير و استطرد قائلا..
- سأنام.. و في الغد يمكنني مساعدتك في اكتشافك المهم !.. طابت ليلتك.
هتف بها (جمال) ثم توجه بشيء من العصبية إلى السرير.. ألقى ظهره عليه فأنّ السرير !..
نظر (هشام) بجنبيه و شعر و كأنه وحيد.. و كأنه لا مفر له من شيء ما !.. و كأن !!...
هزهز رأسه لينفض عنه هذه الخواطر المريعة.. ثم توجه إلى السرير بدوره... استلقى بتوتّر.. و أنّ السرير !..
* * *
- لا أدري لماذا لم أرتح كثيرا لهذا المكان ؟.. إنه يجعل أطرافي ترتعد و أنفاسي ترتعش !..
* * *
تقلب (جمال) في مكانه و هو يواصل شخيره المزعج ثم رفع رأسه فجأة !..
كان شيء ما يخزه بظهره !..
فرك عينيه بتوتر و رأى في مشهد ضبابي صديقه يحمل شمعة و يتمتم بكلمات غير مسموعة !..
- ما بك يا أحمق ؟!.. لماذا تطعنني بأصبعك النحيف ؟..
قالها (جمال) مكشّرا عن أسنانه من فرط الغضب..
لم يجبه (هشام).. و نظر إليه بعينين تائهتين و فم مفتوح يرتعش فكه السفلي !..
- اسمع يا غبي !.. إن كنت تحب هذا النوع من الألعاب الصبيانية، اذهب و العبها بعيدا فأنا لا..
- اســـ...مـ..ع !..
تمكن (هشام) أخيرا من نطقها !.. ثم رفع إصبعه ببطء و أشار إلى الباب !!..
أوجم (جمال) بعد أن ألفى شيئا من الصّدق في ملامح صاحبه الذي عوّده المقالب و المزاح..
و طفق الاثنان يرمقان الباب بترقّب و وجل قبل أن...
صوتٌ ما بالخارج !!..
- أسمعتَ.. (جمال).. سمعت هذا ؟..
- نعم... إنه صوت خطوات على السلم !..
لفظها (جمال) بنبرة يتخلّلها الخوف و التوتر !..
الصوت يعلو أكثر فأكثر.. فأكثر !!..
- إنه يبدو واثقا من نفسه للغاية !..
قفز (هشام) و وضع يده على فم صديقه حتى لا يتكلم أكثر من هذا !..
أطبق (جمال) شفتيه و تضاعف الهلع بقلبه و هو ينظر لصاحبه الذي بهتَ لون وجهه و
اتسعت عيناه بشدّة !..
تغيّر صدى الصوت و ارتفعت حدّته!.. مما يُثبت أن القادم قد دخل البهو !..
أشار (جمال) و عيناه تتحركان بجنون، إلى الشمعة في يد (هشام)!..
فهم الأخير أنه قد نسي الضوء الذي تحدثه الشمعة.. فوضع كفه، بسرعة، على شعلتها ليسود الظلام !
* * *
- ألم تلاحظ شيئا غريبا هنا ؟..
* * *
سـاد الظلام و أقام الصمت..
يبدو أن الخطوات قد توقفت !..
استنشقا رائحة الشمع و استرقا السمع..
بلع أحدهما ريقه بصوت مسموع..
و فجأة.. و بدون مقدمات سمعا أنينا تلاه صوت ركض.. ثم.. !..
* * *
- إنه يبدو واثقا من نفسه للغاية !..
* * *
رأيا ظلا يتجاوز عتبة الباب بسرعة البرق !..
ارتفعت دقّات قلبيهما و شهق أحدهما شهقة حادة و كأن قلبه انفجر !..
أراد (هشام) أن يولج يده في جيبه حتى يُخرج عود ثقاب فسقطت الشمعة من يده و تدحرجت فوق الأرض السوداء !..
الغرفة مُظلمة كلّيتها باستثناء بقعة أمام السرير قد أسقطت عليها النافذة ضوءا شاحبا للقمر... و كان ذلك (الشيء) واقفا في وسطِها !..
فتمكنا من رؤية نصفه السفلي !!..
* * *
- أ ترى ذلك المنزل هناك ؟.. إنه يبدو مهجورا..
* * *
كــان يبدو أطول من اللاّزم !..
ليس واضحا بما فيه الكفاية و لكنهما رأيا...
ساقاه النحيفتان و المقوّستان.. كأن ليس بهما عظم !.. عليهما لحم مترهّل كأنه مسلوق !!..
ثم يداه الطويلتان وقد جاوزا الركبتين.. يكسوهما نفس اللحم المتراخي !.. مع بعض الأصابع المبتورة !؟..
كان هذا كل ما تمكنا من رؤيته، و قد كان كافيا ليجعل عموديهما الفقريين يرتعشان بعنف و تسري بعروقهما صعقة تشلّ جسميهما !..
و كانت الحركة المباغتة التالية.. أن قفز أحدهما من السرير صارخا و قد فقد صوابه تماما !..
* * *
لم يجبه (هشام)، فقد كان شارد الذهن، تائه العينين !..
* * *
و قد كان هذا (هشام)... إذ غادر السرير مزمجرا و قد أفقده الرعب توازنه العقلي و ذهب برباطة جأشه..
اصطدم في طريقه بكرسي خشبيّ ضخم.. فرفعه فوق رأسه بصعوبة و هو يطلق عواء يصم الآذان!..
تحرك الكائن البشع من مكانه و قد أثارت انتباهه الضجة التي أحدثها (هشام) !..
و في هذه الأثناء كان (جمال) كالتمثال الفولاذي، قابضا على الفراش بكفيه، و عيناه جاحظتان و كأنه فارق الحياة.. أنفاسه متوقفة و قلبه يكاد ينخلع من صدره لهول ما رآه !..
و ارتفع صُراخ (هشام) !..
* * *
كان الوقت قد جاوز منتصف الليل، فخلت الشوارع و أُغلقت الدكاكين و أوت القطط إلى مضاجعها و طارت العصافير إلى أعشاشها..
* * *
بدأ عقله يعمل أخيرا بعد أن تخدّر تخديرا..
و فور أن تبلورت فكرة ما بذهنه حتى نفذها بطريقة آلية..
إذ وثب من السرير وثبة لا تُصدّق و ركض كالمجنون باتجاه عتبة الباب التي بالكاد يراها !..
ثم سرعان ما وجد نفسه يقفز في الدرجات قفزا و هو يحاول تمييز نهاياتها بصعوبة..
لاهثا، مُبعثر التركيز، حافي القدمين و قد انغرست أسفلهما قطع من الزجاج المتناثر في كل مكان..
و ارتفع صُراخ (هشام) أكثر !..
* * *
نظر (هشام) بجنبيه و شعر و كأنه وحيد.. و كأنه لا مفر له من شيء ما !.. و كأن !!...
* * *
وصل إلى الطابق الأول.. لا يكاد يرى موضع قدميه لشدة سواد المكان و لكنه مازال يواصل عدوه المحموم.. لا يخطر بباله خاطر و لا تُثيره رغبة من الرغبات.. سوى رغبة الخروج من جحيم الرعب الذي تورّط فيه !..
زلّت قدماه على حين غرّة في درجة من الدرجات (الوهمية) التي يقفز بها.. فسقط و اندفع جسمه بعنف ليتدحرج بسرعة مُخيفة و يرتطم بالجدار تارة و تارة أخرى يصطدم رأسه بالحديد الذي يحدّ السلم.. فتصدر إثر ذلك فرقعة مروّعة !..
ثم استقر جسمه أخيرا على أرضية السّفلي..
* * *
غريب !.. مع أن هذا الحي مأهول بالسكان ؟..
* * *
سكنت حركاته و شُلّت أطرافه.. و بقي لُهاثه الرتيب يُسمع في جوف الظلام..
أحسّ بسائل دافئ يسيل على جبهته ففهم أنه الدم.. فقد تلقّى رأسه ضربات مؤلمة و هو يتدحرج بالسلم..
حاول فتح جفنيه بصعوبة و لكنهما كانا ينغلقان رغما عنه.. فأدرك برعب أنه سيفارق وعيه عمّا قريب !..
و لم يكن ليتحرك أو يرفع رأسه قيد أنملة لولا أن سمع صرخة مدوّية بالأعلى.. صرخة يعرف صاحبها جيدا !..
فثار بركان الرعب بأحشائه من جديد و أنّ بشدة و هو ينتصب على قدميه..
و لما رمى خطوة واحدة التوت رجلاه و سقط بعنف.. فهوى وجهه على بقعة الدماء التي خلّفها جُرح رأسه !..
و صرخ مُتألما و هو يمسك ساقه اليمنى... يبدو أنها قد كُسرت !..
* * *
و منهم من فقد عقله تماما..
* * *
نهض مزمجرا و أسنانه تصطك من شدة التوتر.. عرج جارا ساقه المكسورة باتجاه النافذة التي حطّمها و صديقه قبل دخولهما إلى هذا المكان الملعون !...
وقف أمامها لحظة قبل أن يضع يداه على حافتها ثم يرفع جسده بجُهد جهيد.. و يُلقي بنفسه إلى الخارج!
* * *
- سأنام.. و في الغد يمكنني مساعدتك في اكتشافك المهم !.. طابت ليلتك.
* * *
كان يعرج بشكل مخيف تحت المطر الغزير و هو يزفر زفيرا حادا.. و خيوط المطر تضرب على رأسه المجروح كالإبر الصغيرة !..
فاختلطت قطرات الماء البارد على وجنتيه بدموعه الدافئة التي تسكبها عيناه..
و هو يفكر بمصير صديقه المسكين !..
ولم يزل على هذا الحال.. حتى رأى بطرف عينه شخصا يستند إلى حائط هناك.. يضع يديه بجيبيه و بفمه نصف سيجارة مشتعلة..
قصده دون أن يفكر ثانية.. فكاد الآخر يفرّ رعبا من طريقة مشيه و لُهاثه و منظر رأسه الدامي !..
و لكن (جمال) توقف و ناداه متوسلا ثم أشار إلى خلفه و هو يبكي بصوت مرتفع !..
بقي الرجل لبرهة حائرا ينظر باستغراب إلى (جمـال) قبل أن يقترب منه بحذر و على وجهه إمارات الاستفسار و الاستفهام !..
كان (جمال) يتحدث بسرعة و عصبية و صوته يُخالطه النياح..
و لما أعرب الرجل عن عدم فهمه لما يحاول (جمال) تفسيره.. وفي هذه اللحظة بالذات سمعا صرخة رعب طويلة ورائهما..
ثم طارت عصافير سوداء من أسطح المنازل !..
* * *
أجابه (هشام) و هو لم يزل يقهقه بصوته الرقيق:
- أما أنا فأعطيته لهن عن طيب خاطر... هاهاها..
* * *
و لم يكد أحدهما يلتفتُ ورائه حتى دوّى بالمكان صوت تكسّر زجاج.. ثم اندفع جسم من نافذة بالطابق العلوي لمنزل في نهاية الحي.. ليسقط بعنف مع شظايا الزجاج على قارعة الطريق !!..
تمتم الرجل الغريب برعب:
- أتقصد المنزل رقم 12 ؟!..
ثم فرّ هاربا !...
* * *
و أكثر من مرة وُجدت بالمنزل جثث هامدة على وجوه أصحابها أعتا علامات الرُّعب !..
* * *
لم يُصدّق (جمال) ما رأته عيناه.. و بقي متسمرا مكانه..
هو الذي كان يجري برِجل مكسورة حتى يطلب النجدة لصديقه المسكين !..
صديقُ الطفولة.. ذلك الشاب المرح، الذكي.. الذي أحسّ بالخطر مُسبقا !..
بكى بحرقة و هو يجر رجله إلى المكان اللعين.. متغلبا على رعبه و منتصرا على رغبة الفرار التي تتملكه..
ثم وصل أسفل النافذة..
انحنى على جثة صديقه و هاله التواء أطرافه البشع !.. فسكب المزيد من العبرات..
و لكن ما أخافه و جعله يبتعد مُسرعا.. آسفا على خيانة صديقه و عدم مساندته في تلك اللحظة الحرجة.. ما أشعل الرعب في صدره مرة أخرى و أثار غريزة الذعر لديه.. هو عيناه !.. اللّتان خرجتا من مقلتيهما تماما !؟!...
فماذا رأتا أكثر مما رأى ؟؟..
* * *
تمت بحمد الله